يعتبر العرف من أقدم مصادر القانون. بل أول مصدر له ظهر في تاريخ المجتمع البشري. فهو سابق على وجود الدولة. فالأفراد أحسوا منذ زمن بعيد بضرورية وجود قواعد تنظيم حياتهم الاجتماعية ومشاربهم الخلقية. وما القوانين القديمة المكتوبة التي يتحدث عنها التاريخ (كقانون حمورابي في بلاد الرافدين والألواح الإثني عشر عند الرومان) إلا مجرد تدوين القواعد العرفية التي كان معمولا بها عند هذه الشعوب. فالعرف يعتبر المصدر الرئيسي للقانون في المجتمع البدائي الذي كان لا يوحد فيه تنظيم سياسي، بل كان مجتمع بسيط في حياته وبطيء في تطوره ومحدود في عدد أفراده. غير أنه مع تطور المجتمع وظهور الدولة بمفهومها الحديث وأمام سرعة التطور الذي بدأت تعرفه المجتمعات البشرية منذ القرن التاسع عشر الميلادي بدا الالتجاء إلى التشريع كمصدر للقانون خاصة بعد ظهور حركة تقنين القوانين، لا سيما (المدونة المدنية Le code civil ).
بعد إعطاء نظرة شاملة حول الموضوع يمكن الاعتماد على التصميم التالي:
الفقرة الأولى: تعريف العرف ومزاياه وعيوبه
أولا: تعريف العرف
ثانيا: مزاياه وعيوبه
1 – مزايا العرف
2 – عيوب العرف
الفقرة الثانية: أركان العرف وحدود الاستغناء عن العرف
أولا: أركان العرف
1 – الركن المادي
أ – القدم
ب – العمومية
ذ – الثبات
2 – الركن المعنوي
ثانيا: حدود الاستغناء عن العرف في بعض فروع القانون
1 - مجالات استغناء عن العرف في بعض الفروع القانونية
- مجال كبير جدا لاستغناء عن العرف
- العرف في المجالات الأخرى بين القوة والضعف
2 – لا يمكن للعرف إلغاء تشريع أو مخالفته
أولا – التعريف بالعرف
العرف: هو مجموعة من القواعد التي تنشأ من اطراد الناس على سلوك معين في ناحية من نواحي حياتهم الاجتماعية لمدة طويلة حيث تنشأ منه قاعدة يسود اعتقاد الناس بضرورة احترامها خشية توقيع الجزاء عند مخالفتها. فالقاعدة العرفية تخلقها العادة لا السلطة، المجتمع لا الدولة بمعنى أن العرف قاعدة غير مسنونة أوجدها تعامل الناس اللاشعوري واطراد سلوكهم في مسالة معينة على وجه مخصوص.ويعتبر العرف من المصادر الاحتياطية، أي أنه لا يجوز للقاضي اللجوء إليه إلا في حالة عدم وجود نص في التشريع باعتباره نشأ نتيجة اعتياد الناس على نوع من السلوك مع الاعتقاد بلزوم أتباع هذا السلوك، فإن العرف يعبر عن إرادة الجماعة لأن الناس يسيرون وفقا لعادات وتقاليد يتوارثونها جيلا بعد آخر ويحافظون عليها لأنهم يشعرون بضرورة إتباعها ويعتبرونها ملزمة لهم حتى تستقر المعاملات فيها بينهم ويستتب الأمن. فالبيئة المغربية كانت وما تزال تزخر بالعديد من الأعراف والعادات التي تختلف من منطقة إلى أخرى. سواء عند المغاربة العرب أو الأمازيغ (أزرف جمع إزراف). منها ما هو غير مكتوب، ومنها ما هو مكتوب ومدون وتطلق عليه أسماء مختلفة، مثال "لوح وأمقون وديوان" عند أهل سوس أو "تاعقيدات" عند قبائل المغرب الشرقي، وقانون لجماعة أو ايت ربعين" عند قبائل الصحراء، أو "لقانون" عند قبائل الريف. فالمشروع المغربي يحيل في الكثير من القوانين على الأعراف والعادات سواء في المسائل التجارية أو المدنية أو الأسرية كمصدر احتياطي في حالة عدم وجود نص تشريعي أو عند سكوت المشرع عن حالة معينة.
الثاني – مزايا العرف وعيوبه
بالرغم من اعتبار العرف أحد المصادر الاحتياطية للقانون، أثره يختلف اختلافا ملحوظا في نطاق تطبيقه بين فروع القانون. فلا مجال لتطبيق العرف مثلا في القانون الجنائي حيث المبدأ: "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني" وبالتالي تطبق أحكام التشريع وحدها في هذا المجال. كما أن اثر العرف يتراوح بين القوة والضعف في بعض فروع القانون إذ يلاحظ أن هذا الأثر يبدو بارزا في نطاق القانون التجاري وقانون العقود والالتزامات وقانون الأسرة أكثر مما هو عليه في نطاق فروع القانون الأخرى، غير أن للعرف مزايا كما أن له عيوبا.1 – مزايا العرف
لا يتضح قيمة العرف إلا على ضوء المقارنة بمكانة التشريع، فالمزايا التي تنسب العرف هي في ذات الوقت عيوب التشريع، وعيوب العرف هي مزايا التشريع، ولذا يتميز العرف بالمزايا التالية:أ – العرف مصدر يعبر عن واقع ظروف المجتمع، فهو يتكون مما جرى الناس عليه في معاملاتهم الاقتصادية وأحوالهم الاجتماعية مع اعتقادهم بأنه ملزم، ومن ثم لا يصدر العرف عن إرادة وسلطة الحاكم، بل ينبع من ضمير الجماعة ولذلك تأتي القاعدة العرفية تعبير صادق لأحوال الجماعة وحاجاتها، لدرجة أن العديد من الأعراف في المغرب قد استطاعت الاستمرارية بالتحصن في الإطار القبلي، بينما اكتفت القوانين بتسيير شؤون الدولة والحكم، أي أنه ظلت القبائل في السابق خاضعة للدولة من الناحية السياسية مع الحفاظ على أعرافها وتقاليدها المحلية.
ب – القاعدة العرفية هي اعتياد الناس على سلوك معين، فتغيرها يتم بتغيير سلوك الناس واعتيادهم على هذا التغيير، وهذا التغيير، وهذا يؤكد مدى استجابة وملائمة القاعدة العرفية لظروف الجماعة ورغباتها.
ج - يعتبر العرف كذلك مكملا للتشريع حيث يسد ما يمكن أن يوجد فيه من نقص لأن المشرع مهما كان كاملا ومهما بذل من جهد لتحقيق هذا الكمال، فإن التشريع لا يمكنه الإحاطة بكل ما تحتاجه علاقات الناس من تنظيم وضبط. فالعرف ينظم بعض المشاكل المحلية التي قد تواجه منطقة دون أخرى وكذلك الشأن بالنسبة لبعض المشاكل التي تهم حرفة دون أخرى أو مهنة معينة من المهن.
2 – عيوب العرف
أ – يعاب على العرف أنه بطيء النشأة، لأن ظهور القاعدة العرفية وتعديلها يحتاج إلى وقت طويل لكي يعتاد الناس على سلوك معين حتى يتوفر للعرف الاستقرار والثبات، ومن ثم فهو لا يلبي حاجات الجماعة المتطورة التي تحتاج إلى تنظيم سريع، فالعرف مثلا لا يصلح لتنظيم المشاكل المترتبة على حلول خطر داهم كالفيضانات والأوبئة وحالة الطوارئ الأخرى (كنشوب حرب...)ب – يؤدي العرف إلى صعوبة الاهتداء إليه بسبب اختلاف القواعد المنظمة لذات الموضوع في إقليم الدولة الواحدة، فتعدد الأعراف وتنوعها من إقليم لآخر يجعل من الصعب على القاضي وعلى الباحث عموما أن يهتدي إليها، كما تختلف القاعدة التي تحكم المسالة الواحدة في البلد الواحد وهذا يتعارض مع مصلحة الدولة التي تقتضي بوحدة القانون فوق ترابها.
ج – يؤخذ على العرف أيضا بأن قواعده تتكون تدريجيا بل تتسم أحيانا بعدم الوضوح والتحديد لأنها تكون غير مكتوبة ومن ثم يكون من الصعب الوقوف على فهم معناها وبالتالي معرفتها معرفة جيدة.
الفقرة الثانية: أركان العرف وحدود الاستغناء عن العرف
أولا: أركان العرف
ترجع قوة العرف في تكوينه إلى ركنين أساسيين: الركن المادي élément matériel الذي يتمثل في اعتياد الناس على سلوك معين والركن المعنوي élément moral الذي يتجسد في اعتقاد الناس بأن القاعدة التي نشأت من هذا السلوك قاعدة ملزمة.1 – الركن المادي = الاعتياد
يقصد بالركن المادي للعرف (يسمى كذلك بالعادة usage) اعتياد الأفراد على سلوك معين لتنظيم مسألة تهم حياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية، أي إتباع الناس عادة معينة زمنا طويلا توارثوها جيلا عن جيل، فهي عادة لا تفرضها سلطة معينة كما هو الحال بالنسبة للقانون، ولا توحي بها جهة معينة كما هو الشأن بالنسبة للقواعد التي يستقر عليها القضاء أو الفقه، غير أنه يجب أن تتوفر في العادة المكونة للركن المادي للعرف الشروط التالية:أ – القدم: يجب أن تكون المادة قديمة ancienne، بمعنى أن يكون سلوك الناس قد استقر على حكم هذه القاعدة خلال مدة طويلة حيث تدل على رسوخ أثرها في النفوس وقيام عرف مستقر على أساسها، وليست هناك مدة محددة في هذا الشأن لأنه لم يتمكن أحد من وضع حد معين أو معيار معين لقياس قدم العادة.
ب – العمومية: يشترط في العادة أن تكون عامة générale، أي ألا تقتصر على أشخاص معينين بالذات، بل يجب أن ينصرف خطاب هذه القاعدة إلى أشخاص بصفاتهم ولا بذواتهم، كما ينبغي أن يسود إتباعها من طرف أغلبية من الأفراد في النطاق الذي تطبق فيه. فيمكن أن تكون العادة شاملة لكل إقليم الدولة، كما يمكن أن تقتصر على جهة معينة من هذا الإقليم. فيكون العرف أغلبية الأفراد في النطاق الذي يطبق فيه. فيمكن أن تكون العادة شاملة لكل إقليم الدولة، كما يمكن أن تقتصر على جهة معينة من هذا الإقليم، فيكون العرف حينئذ محليا، وقد تقتصر على طبقة من الأشخاص يزاولون مهنة معينة (كالتجار والفلاحين...) فيكون العرف حينئذ مهنيا أو حرفيا.
3 – الثبات: هو استمرار العمل بالقاعدة دون انقطاع ودون توقف constante وهو شرط مكمل لشرط القدم، والعمل بهذه القاعدة يجب عدم التخلي عنها حيث إذا تبعها الناس في وقت وعدلوا عنها في وقت آخر لا تعتبر هذه عادة ومن ثم لا تعد عرفا، ويبقى تقدير هذه المسألة متروكة لسلطة القاضي.
2 – الركن المعنوي = عقيدة الإلزام
لا يقوم العرف بمجرد توفر الركن المادي. بل يجب أن يتولد لدى الناس الشعور بأن العادة التي دأبوا على إتباعها ملزمة لهم باعتبارها قاعدة قانونية لها جزاء مادي توقعه السلطة العمومية جبرا على من يخالفها، شأنها في ذلك شأن القاعدة التشريعية لأن إطراء سلوك الأفراد على إتباع سلوك معين مسألة بذاتها قد يتوفر في بعض العادات دون أن يؤدي ذلك إلى ارتقاءها إلى مرتبة القواعد العرفية، فهناك الكثير من العادات والتقاليد (كقواعد الأخلاق والمجاملات) تتوفر لديها عناصر العمومية والقدم والثبات ولكن دون أن يترتب عن ذلك اعتبارها قواعد قانونية.ولكي ترقى العادة (usage) إلى مرتبة العرف (cotume). لابد من توفر عنصر معنوي (élément général) يتمثل في اعتقاد الناس بأن قاعدة السلوك التي تتضمنها العادة هي قاعدة ملزمة وواجبة الإتباع، وهذا الاعتقاد يقترن بقبول جميع الناس أو أغلبيتهم أن مخالفة حكمها يستوجب توقيع جزاء على من يخالفها.
1 – مجالات الاستغناء العرف في بعض فروع القانون:
- مجال كبير جدا للاستغناء عن العرف في بعض فروع القانونيتعلق الأمر هنا بالقانون الجنائي حيث يسود مبدأ (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)، فالتجريم والعقاب قاصر على النصوص المكتوبة، ومن ثم يعتبر التشريع المصدر الوحيد لمقتضيات القانون الجنائي.
- العرف في المجالات أخرى بين القوة والضعف
ففي قانون الالتزامات والعقود، مثلا، يلعب العرف دورا هاما في تكملة التشريع ولا دليل على ذلك أكثر مما جاء في الفصل 231 منه: "كل تعهد يجب تنفيذه بحسن نية وهو لا يلزم بما وقع التصريح به فحسب، بل أيضا بكل ملحقات الالتزام التي يقررها القانون أو العرف أو الإنصاف وفقا لما تقتضيه طبيعته". فالعرف يساعد إذن على تفسير الاتفاقات وهناك نصوص أخرى عديدة ومتفرقة تحيل على العرف نذكر منها على سبيل المثال الفصول: 549 و550 و 556 و 578 و 580. أما بالنسبة للقانون التجاري ذي النطاق الواسع. فإن الأعراف العامة أو المحلية أو المهنية تحتل مجالا واسعا ويفترض في المتعاقدين قبولها. وفحص هذه الأعراف يرجع إلى السلطة التقديرية لقاضي الموضوع حيث هو الذي يقرر ما إذا وجد العرف وتحققت جميع أركانه. يمكنه استعماله عندما يقوم بتسفير العقود.
لقد اعترف المشرع التجاري نفسه صراحة بمكانة العرف في تنظيم الحياة التجارية ويتضح ذلك بالخصوص من الفصل 2 من مدونة التجارة لفاتح غشت 1696 كما سبق الذكر.
2 – لا يمكن للعرف إلغاء التشريع أو مخالفته
يعد كل من العرف والتشريع مصدرا رسميا للقاعدة القانونية. إلا أن العرف يأتي في المرتبة الثانية بعد التشريع ولا يطبقه القاضي إلا إذا لم يجد قاعدة قانونية مكتوبة في التشريع، فهذا الأخير لا يمكن أن يواجه وينظم جميع المسائل، لذلك يأتي العرف ليكمله وليسد ما به من نقص وثغرات، ويترتب على ذلك أن التشريع يمكن أن يلغي العرف والعكس غير مبدئيا.
إن التشريعات تحتفظ بسلطتها وآثارها طالما لم يتم إلغاؤها بمقتضى تشريعات أخرى، وإذا لم نقبل إلغاء التشريع من خلال إهمال تطبيقه فلأن القول بخلاف ذلك أمر خطير، ولكن هل يمكن أن نخفي سلطة هذا النوع من الإلغاء، وكذا الفائدة من هذه القوة غير المرئية التي يحاكم ويحمي التشريع نفسه كذلك؟
وإذا رجعنا إلى القانون المغربي نجد أن مسألة قوة العرف المخالفة للتشريع أو إلغاء التشريع بالإهمال مسألة غير قابلة للمناقشة، فالفصل 474 ق.ل.ع ينص صراحة على أن "القوانين لا تلغى إلا بقوانين لاحقة وذلك إذا نصت هذه صراحة على الإلغاء أو كان القانون الجديد متعارضا مع قانون سابق، أو منظما لكل الموضوع الذي ينظمه".
نخلص إلى القول أن كلا من العرف والتشريع يضع قواعد قانونية وأنهما يتعايشان معا للمساهمة في تنظيم شؤون الأفراد وحماية المصلحة العامة، ولكن تضافر عوامل متعددة، وخاصة منها ظهور الدولة وتعقد الحياة والمعاملات، أدت إلى انتشار التشريع بشكل واسع بالمقارنة مع العرف، فبعدما كان العرف يحتل الصدارة في سن القوانين ترك مكانه في الوقت الراهن للقانون المكتوب، ولم يعد يلعب الآن إلا دورا ضعيفا.
وإذا كان الشبه الموجود بين العرف والتشريع يجد أساسه في كونهما قواعد قانونية، فإن أوجه الاختلاف بينهما متعددة ويستمدانها بالخصوص من طريقة نشأتهما وتكوينهما.
المراجع
- د. محمد الصغير بعلي .المدخل للعلوم القانونية(نظرية القانون و نظرية الحق)،دار العلوم للنشر و التوزيع ،طبعة 2006 .
- د.إسحاق إبراهيم منصور. نظريتا القانون و الحق ، ديوان المطبوعات الجامعية بن عكنون ، الجزائر ، طبعة1999.
- د. محمدي فريدة ،المدخل للعلوم القانونية(نظرية القانون)، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية ، الرغاية ، الجزائر .طبعة 1998 .
- د. محمد سعيد جعفور، مدخل إلى العوم القانونية(الوجيز في نظرية القانون)، دار هومة بوزريعة،الجزائر، طبعة1999 .